فتح إمبراطورية طرابزون والصعاب التي واجهها السلطان محمد الفاتح
يُعدّ فتح إمبراطورية طرابزون عام 1461 واحدًا من أعظم الفتوح التي حققها السلطان العثماني الغازي محمد الثاني "محمد الفاتح" بعد فتح القسطنطينية. فقد شكّلت طرابزون آخر ورقة بيزنطية صامدة على سواحل البحر الأسود، وكانت حصنًا جبليًا منيعًا وصعبة الوصول، مما جعل غزوها مهمة عسيرة حتى على أقوى الجيوش. ومع ذلك، أصرّ السلطان الشاب على إنهاء ما تبقى من الدولة البيزنطية، مستندًا إلى رؤية واضحة وإرادة لا تلين، قائلاً لجنوده أثناء عبور الجبال: «إن هذه الشدائد التي أمرّ بها هي من أجل الدين حتى لا نخجل يوم القيامة، لأن السيف الإسلامي في أيدينا، فإذا لم نتحمل المصاعب فلا نستحق أن نُدعى محاربين غزاة.»
رحلة عبر جبال البنطس الوعرة
ما ميّز حملة طرابزون ليس فقط هدفها السياسي والديني، بل المشقة الجغرافية غير المسبوقة. فطرابزون تقع خلف سلسلة جبال البنطس الشاهقة المطلة على البحر الأسود، وهي جبال منحدرة، كثيفة الغابات، كثيرة الأنهار والوديان العميقة. كان عبور هذه التضاريس تحديًا للجنود العثمانيين الذين لم يعتادوا السير في طرق ضيقة شديدة الانحدار.
اضطر الجيش إلى التقدم ببطء، يحمل المؤن على ظهور الحيوانات، بينما كان المطر الغزير يحول الطرق إلى طين كثيف. ورغم ذلك، ظلّ الفاتح يتقدم الصفوف، يشق الطريق بنفسه، ويُحمّس جنوده بكلمات تبث العزيمة والثبات.
إمدادات قليلة ومخاطر كبيرة
كانت واحدة من أكبر الصعوبات في هذه الحملة هي شحّ المؤن. فقد كانت المناطق الجبلية قليلة الموارد، ولا يمكن للجيش الاعتماد على الغنائم أو المحاصيل مثلما يحدث في السهول الخصبة. وكان السلطان يُقسّم الطعام بنفسه أحيانًا لضمان عدالة التوزيع، ويشارك جنوده في تحمل الجوع والتعب.
وإلى جانب ذلك، كانت الطرق محفوفة بالمخاطر؛ فالانهيارات الأرضية والصخور المتساقطة كانت تهدد حياة الجنود، إضافة إلى خطر الكمائن من سكان الجبال الذين يعرفون المنطقة أكثر من أي جيش قادم من الخارج.
الحصار البحري والبري المتزامن
على الرغم من الظروف الصعبة، أثبت الفاتح عبقريته العسكرية مرة أخرى. فقد أمر الأسطول العثماني بالإبحار عبر البحر الأسود لفرض حصار بحري شامل على طرابزون، بينما استمر هو في التقدم عبر اليابسة. هذه الخطة كانت ضربة قاضية للإمبراطورية، إذ لم يعد لها أي منفذ للهروب أو طلب الدعم من القوى المسيحية في أوروبا.
الوصول إلى أسوار طرابزون
بعد أسابيع طويلة من العبور الشاق عبر الجبال، ظهر الجيش العثماني أخيرًا أمام أسوار طرابزون. ورغم تحصين المدينة، أدرك الإمبراطور ديفيد كومنين أن لا أمل له أمام جيش يُقاتل بإيمان وقائد لا يعرف الهزيمة. فاستسلمت طرابزون دون مقاومة تُذكر، ليدخل السلطان المدينة ويعلن إنهاء آخر معقل بيزنطي في الشرق.
دلالة الفتح وأثره التاريخي
لم يكن فتح طرابزون مجرد انتصار عسكري، بل كان تكليلًا لمشروع محمد الفاتح في توحيد الأناضول تحت راية الدولة العثمانية، وتأمين طرق التجارة على البحر الأسود، وإغلاق صفحة تاريخية عمرها ألف سنة من الوجود البيزنطي.
كما جسّد هذا الفتح حقيقة شخصية الفاتح: قائد لا يخشى التضحية، وجندي يعيش آلام جنوده، ورجل يرى أن الصبر على الشدائد هو طريق العظماء. وقد كان عبور الجبال بكل مخاطرها أحد أهم الاختبارات التي أثبت فيها الفاتح قدرته على القيادة في أصعب الظروف.
يبقى فتح طرابزون شاهدًا على قوة الإرادة العثمانية، وعلى إصرار محمد الفاتح في مواصلة الفتوحات رغم قسوة الطبيعة وخطورة الطريق. فقد واجه السلطان الجبال والأنهار والبرد والجوع، ولكنه لم يتراجع، لأنه كان يرى أن الشدائد طريق النصر، وأن الجيوش لا تنتصر إلا حين يقودها رجل يعرف معنى التضحية ويتقدم الصفوف بنفسه.
.
